البديهيات مفقودة
الليلة لم تكن كسابقاتها. الرياح، باردة بشكل غير معتاد، هبت عبر شوارع سيلفاريوم الضيقة وكأنها تهمس بأسرار قديمة منسية. تحت السماء المظلمة التي يهيمن عليها القمر الدموي، بدت الأبراج المتصدعة والأبنية البالية وكأنها هياكل عظمية عملاقة، شاهدة على عصر مضى، تركت لتنهار ببطء تحت وطأة الزمن.
إستيقظ إيفان ديمونت على شعوره بالألم في كل جزء من جسده. استلقى على فراشه الصلب في غرفة خافتة الإضاءة داخل مستشفى عسكري قديم، حيث الجدران المصفرة بالبقع تبدو شاهدة على مرور الزمن والتآكل. الستائر المفتوحة قليلاً سمحت بدخول ضوء شمس بعد الظهيرة الباهت، مما أعطى الغرفة طابعًا كئيبًا. بلاط الأرضية الأبيض الذي انطفأ بريقه بمرور الزمن بدا باردًا تحت قدميه. بجانب سريره، كان هناك طاولة صغيرة عليها بعض الزهور، أرسلها له قائده العسكري في محاولة باردة لتعزيته.
حدّقت كلارا في الملفات على السرير، ثم نظرت إليه بفضول وهي تسأله: “إلى أين ستذهب؟”
صافرات الإنذار المعتادة قطعت السكون، صاخبة مثل نداءات موت معلنة. انطلقت كتيبة الملك في الأرجاء، خطواتهم كانت إيقاعاً ثقيلاً يخترق الشوارع المظلمة والمبللة بالأمطار المتجمعة في برك صغيرة بين الحجارة العتيقة. كانت الأرض تحتهم ملساء من الرطوبة، تلمع تحت ضوء مصابيح الغاز المهتز بفعل الرياح، تلك المصابيح التي تلقي بظلال مشوهة وطويلة على الجدران المنهارة. أما الشوارع، فقد خلت من سكانها كما لو أن المدينة لفظتهم إلى جحورها، ليختبئوا من الليل ووحوشه.
.
“هناك شيء غير طبيعي هنا…” همس أحد الجنود بصوت منخفض، عينيه تحدقان في الأزقة الفارغة المحيطة بهم. لم يكن هناك أي حركة، كأن المدينة نفسها توقفت عن التنفس.
لكن تلك الليلة، شيء ما كان مختلفًا.
انفصل قسم من الكتيبة، يقوده الملازم إيفان ديمونت، رجلاً ذا ملامح صارمة لا تعكس إلا شبح التعبير. كان يرتدي معطفًا ثقيلًا داكن اللون، يرفرف مع كل حركة وكأنه يمتزج مع الليل. رأسه مغطى بقبعة سوداء متينة، ذات حواف عريضة تقيه الأمطار المتساقطة بخفة، تاركة قطرات تتجمع ثم تنزلق على طول المعطف لتتلاشى في الشوارع القاتمة. معه تسير كتيبته، جنود مدججون بالسلاح، يتنقلون بين الأزقة وكأنهم أشباح في ظلمة الليل، أسلحتهم الباردة تلمع في الظلام، يلتف حولهم ضوء المصابيح الغازية الشاحبة.
“هل انتهيت من تمارينك؟” سألت بنبرة رسمية، لا تهتم كثيرًا بالإجابة.
الطرق كانت ضيقة، الجدران المتهالكة على جانبي الشارع تتكدس فوق بعضها البعض، تشقها نوافذ صغيرة ذات إطارات خشبية باهتة، تغطيها الستائر الثقيلة التي لا تُفتح أبدًا. الواجهات كانت قديمة، يغلب عليها اللون الداكن بفعل الغبار الذي تراكم على مر العقود. الأبواب العتيقة المصنوعة من خشب البلوط تزينها زخارف معقدة، لكنها فقدت بريقها منذ زمن طويل، محفورة بأثر الزمن والرطوبة. كان بوسع أي مارة أن يشعروا بأن هذه الأبنية قد شهدت أكثر مما تتحمله.
“هناك شيء غير طبيعي هنا…” همس أحد الجنود بصوت منخفض، عينيه تحدقان في الأزقة الفارغة المحيطة بهم. لم يكن هناك أي حركة، كأن المدينة نفسها توقفت عن التنفس.
.
إيفان لم يرد، لكنه شعر بنفس الانزعاج. عادةً ما كانت هذه الشوارع تعج بالناس قبل غروب الشمس، لكن الآن، كان الصمت هو الحاكم. الرياح، رغم قسوتها، لم تُصدر سوى صوت خافت وهي تعبث بأطراف المعاطف الثقيلة، مما زاد من وطأة الترقب في قلوبهم. الليل كان مختلفًا هذه المرة، وكانت الكتيبة تشعر بهذا.
بينما كانوا يقتربون من هدفهم، بدأت البيوت التي مروا بها تأخذ طابعًا غريبًا. الجدران القديمة بدت وكأنها تتنفس ببطء، تتشقق وتتمدد تحت ثقل الظلال الداكنة. النوافذ المتربة كانت أشبه بأعين ميتة تحدق في الفراغ، لا تنبض بالحياة بل بالصمت. الشارع، الذي بدا وكأنه يمتد بلا نهاية، كان ضيقًا بشكل لا يبعث على الراحة، وكأن الجدران تقترب من بعضها البعض لتحاصرهم.
بينما كانوا يقتربون من هدفهم، بدأت البيوت التي مروا بها تأخذ طابعًا غريبًا. الجدران القديمة بدت وكأنها تتنفس ببطء، تتشقق وتتمدد تحت ثقل الظلال الداكنة. النوافذ المتربة كانت أشبه بأعين ميتة تحدق في الفراغ، لا تنبض بالحياة بل بالصمت. الشارع، الذي بدا وكأنه يمتد بلا نهاية، كان ضيقًا بشكل لا يبعث على الراحة، وكأن الجدران تقترب من بعضها البعض لتحاصرهم.
“ربما، لكن هذا غير واضح تمامًا. ما هو واضح هو أن الوضع أكبر مما يمكن لكتيبتنا التعامل معه بمفرده. نحن بحاجة إلى توسيع فرق البحث، وإلى إطلاق برنامج جديد يركز على اكتشاف الشذوذ، وربما استخدام تقنيات خارج نطاق قدرتنا . لأنني إذا كنت على حق، فإن السيد ليل ورعاته لم يقتربوا حتى من إنهاء تدخلهم في عالمنا.”
وفي نهاية هذا الممر المتعرج، ظهر أمامهم المنزل. كان بناءً ضخماً، يظهر ككائن مهيب في وسط الظلام. واجهته الأمامية كانت تزينها أعمدة حجرية شاهقة، متآكلة بفعل الزمن، تقف متباعدة وكأنها أسنان متكسرة. على جانبي الباب الكبير، كانت الأبواب محاطة بزخارف حديدية ملتوية، كما لو أنها تحاول الإمساك بأي شخص يجرؤ على الاقتراب. الجدران العالية مغطاة بطبقة من النباتات المتسلقة، أوراقها تلتف حول الطوب القديم مثل أصابع ميتة تبحث عن حياة لم تعد موجودة.
النوافذ، الكبيرة والمستديرة في أعلاها، كانت مغلقة تمامًا، لا أثر لأي ضوء يتسرب منها. ستائر داكنة، ثقيلة مثل ظلال الليل نفسه، تخفي ما بداخلها. بدا المنزل وكأنه كائن حي يختبئ وراء هذه الستائر، يراقب بصمت كل من يقترب.
توقف الجنود عند هذا المنزل، تتسلل الرهبة إلى قلوبهم. إيفان، بوجهه الصارم وعينيه اللتين تحملان بريق العزيمة، تقدم خطوة للأمام، وقف أمام الباب الثقيل، الهواء حوله يتثاقل، وكأنهم يقفون على حافة عالم آخر، عالم غارق في الظلام والمجهول.
نظرت إليه بتعاطف غريب، وملامحها شاحبة من التفكير. “ماذا تقصد؟”
“لقد وصلنا…” قال إيفان بصوت خافت، عيناه تتفحصان الأبواب العتيقة، والمجهول الذي ينتظر خلفها.
رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”
.
.
بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.
.
.
.
اقترب إيفان من المذبح، وملامح وجهه توحي بمزيج من الفضول والرعب. كانت العظام منحوتة بشكل دقيق، وكأنها شكلت بشكل طبيعي لتتخذ هذه الهيئة. همس بصوت منخفض: “كيف تم صنع هذا الشيء؟”
أومأ إيفان برأسه بخفة، وقد بدا وكأن عينيه تغوصان في ظلال المكان، تتأملان كل زاوية وكل حجر. وقف على مسافة وهو يراقب الجنود أثناء قيامهم بالتفتيش، وعقله ينشغل بالتفكير في الأسرار التي قد تكمن خلف هذه الجدران المتهالكة. بعد دقائق معدودة، سمع صوت إليزابيث يناديه من الداخل.
إستيقظ إيفان ديمونت على شعوره بالألم في كل جزء من جسده. استلقى على فراشه الصلب في غرفة خافتة الإضاءة داخل مستشفى عسكري قديم، حيث الجدران المصفرة بالبقع تبدو شاهدة على مرور الزمن والتآكل. الستائر المفتوحة قليلاً سمحت بدخول ضوء شمس بعد الظهيرة الباهت، مما أعطى الغرفة طابعًا كئيبًا. بلاط الأرضية الأبيض الذي انطفأ بريقه بمرور الزمن بدا باردًا تحت قدميه. بجانب سريره، كان هناك طاولة صغيرة عليها بعض الزهور، أرسلها له قائده العسكري في محاولة باردة لتعزيته.
“إذن يجب أن تعرف أن ما مررت به لم يكن مجرد صدمة بسيطة.”
إيفان كان قد فقد سبعة أشهر من حياته، غارقًا في غيبوبة طبية طويلة. في البداية، حاول الأطباء إيقاف التخدير بعد فترة من العلاج، لكن جسده لم يستجب. لقد استيقظ أخيرًا، ليس على صوت الحياة، بل على أصوات الأطباء والممرضات وهم يحيطون به، يسألون عن حاله. لكنه لم يكن قادرًا على فعل شيء سوى الصراخ.
توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”
ظهر الدكتور أندرسون عند مدخل الغرفة، بنظرة مختلطة بين الاحترافية والقلق. كان رجلاً في منتصف العمر، شعره الرمادي المتناثر يعكس سنواته الطويلة في مهنته. ارتدى معطفه الأبيض الذي بدا أطول من المعتاد، وتحرك بخطوات مدروسة نحو إيفان.
شعر إيفان بأن قلبه ينبض بسرعة متزايدة، وبدأت علامات القلق تظهر على ملامحه. “هل لهذا أي علاقة بالكيان الذي تعقبني سابقا؟”
“كيف تشعر هذا الصباح، ديمونت؟” سأل الدكتور بنبرة هادئة، محاولًا إخفاء قلقه المتزايد.
“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.”
“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.
حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.
شعر إيفان بالغضب يشتعل بداخله. “لماذا أعادوه إلى هناك؟ ذالك المكان عبارة عن جحيم حي.
ابتسم الدكتور بحذر وهو يقلب صفحات التقرير بين يديه. “حسنًا، لقد حصلت على نتائج تخطيط كهربية عضلاتك، وأعتقد أن الأمر قد يثير اهتمامك.”
ظهر الدكتور أندرسون عند مدخل الغرفة، بنظرة مختلطة بين الاحترافية والقلق. كان رجلاً في منتصف العمر، شعره الرمادي المتناثر يعكس سنواته الطويلة في مهنته. ارتدى معطفه الأبيض الذي بدا أطول من المعتاد، وتحرك بخطوات مدروسة نحو إيفان.
“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.
ردت عليه بصوت ثابت: “لا أستطيع إثبات ذلك بعد، لكن إذا قرأت ملفات ‘لغز الضباب المكسور’ و طائفة الظلال، أعتقد أنك ستفهم ما أعنيه.”
“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.”
“طبيعية؟ كيف يكون ذلك؟” قبضت يدا إيفان على الأغطية بتوتر.
ابتسمت كلارا برفق، لكن البرود لم يختفِ من صوتها: “بعد مراجعة كل الملفات، قمت بإعادة تصنيفها للإشارة إلى ارتباطها. لا أخطط لفعل ذلك دائمًا، لكن هذه الشذوذات الثلاثة متصلة بطريقة تتجاوز الأحداث الفردية.”
“بعد غيبوبة طويلة كهذه، من المتوقع أن تفقد كتلة عضلية نتيجة الضمور. لكن ما حدث معك غير مألوف، جسدك لم يتأثر.”
أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.
“إذن لماذا الألم لا يتركني؟” سأل إيفان، صوته يمزج بين الاستفهام والغضب المكبوت.
توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”
“كل شخص يتفاعل مع الصدمات بطرق مختلفة، ما تمر به من ألم نفسي قد يترجم إلى شعور جسدي.” حاول الدكتور أن يفسر بحذر.
فرد فريدريك ظهره قليلاً، نظرته أصبحت أكثر عمقًا وعيونه مملوءة بشيء من الظلال. “لا، لم يكن تخاطرًا. لو كان كذلك، لشعرت به. كان الأمر أشبه بشيء أعظم منهم جميعًا يتحكم فيهم من الخلف ولهذا السبب أحتاج إلى العودة إلى هناك.”
لكن إيفان لم يكن راضيًا. تلك الكلمات لم تكن تشفيه، بل زادت من شعوره بالغموض الذي يلتف حوله. لقد رأى أشياء لا يمكن نسيانها، عايش أحداثًا تخترق أعماق الوعي، لكنها لم تكن مجرد “صدمة” كما يقولون.
ابتسم الدكتور بحذر وهو يقلب صفحات التقرير بين يديه. “حسنًا، لقد حصلت على نتائج تخطيط كهربية عضلاتك، وأعتقد أن الأمر قد يثير اهتمامك.”
أخذ إيفان لحظة للتفكير، محاولًا أن يستوعب ما يسمعه. “كيان يتحكم بهم؟ ولمَ لم تخبرني عن هذا من قبل؟ ما علاقتك بهذا الكيان؟”
“هل قرأت ملفي؟ ملف 7523؟” سأله إيفان بنبرة تملؤها الشك.
“ليس تمامًا، لكنه جزء من الأمر. تم نقله مرة أخرى إلى ‘الظلال المحجوبة’، وأغلقنا البوابة خلفه. قال إن وجوده هناك هو الشيء الوحيد الذي يمنع الكيان من العودة إلى عالمنا.”
“بالطبع، لقد حصلت على الإذن اللازم لمعرفة التفاصيل عندما بدأنا علاجك.” قال الدكتور بنبرة محترمة.
حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.
أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.
“إذن يجب أن تعرف أن ما مررت به لم يكن مجرد صدمة بسيطة.”
“هناك شيء غير طبيعي هنا…” همس أحد الجنود بصوت منخفض، عينيه تحدقان في الأزقة الفارغة المحيطة بهم. لم يكن هناك أي حركة، كأن المدينة نفسها توقفت عن التنفس.
“أعلم أنك أنت وفريق العمليات الخاصة كنتم جزءًا من عملية معقدة، لكن ما حدث يُفسر بالعلم. ذهبت إلى مكان بعيد… واقع غريب، تعرضت لأمور تفوق الإدراك.” قال الدكتور محاولًا إظهار فهمه للوضع، لكنه لم يكن يدرك حجم الفوضى التي عايشها إيفان.
كان الجو ثقيلاً في صباح فبراير، حين تسلل ضوء الشمس الخافت عبر النوافذ العالية، ليضفي على الغرفة جوًا من التوتر الذي لم يتبدد برغم دفء النهار.
“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”
رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”
“أفهم ذلك، لكن الاختبارات التي أجريناها عليك تشير إلى أنك في حالة جيدة.” قال الدكتور بحذر، محاولًا تهدئة الوضع.
تنهّد إيفان ببطء، ونظر إلى الملفات المتناثرة أمامه. كانت ثقيلة، ليست فقط بوزنها المادي، ولكن بثقلها المعنوي. أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يعترف بصوت منخفض: “لا أعرف ماذا أفعل هنا. ليس لدي القوة للغوص في كل هذا بعد الآن.”
“لا يهمني ما تقوله النتائج! لقد حاول هذا الشيء أكلي من الداخل إلى الخارج. لقد حول الناس إلى وحوش مفترسة، وحاول أن يفعل نفس الشيء معي.”
.
ابتسم الدكتور قليلاً وهو يقترب من إيفان. “أنت أفضل بكثير الآن. لقد تحسنت حالتك مقارنة بالأيام الأولى عندما كنت تهاجم الجميع وتصرخ على الطاقم الطبي.”
أخذ إيفان نفسًا عميقًا، يعلم أن هذه الجلسة لن تكون عادية. “بالأمس تحدثنا عن الهجمات التي أدت إلى وفاة أفراد فريقنا. نحن بحاجة إلى فهم ما حدث هناك بشكل أوضح، فريدريك.”
صمت إيفان لوهلة، مستذكرًا تلك الأيام الأولى. لم يكن هو نفسه، لم يكن يعرف حتى من يكون حينها. كان مجرد مزيج من الغضب والخوف.
.
“أنا لا أقول أنني لم أتحسن. لكنني لم أعد كما كنت. هذا الشيء أفسدني.”
“لهذا السبب أطلب منك أن تستمر في الراحة وممارسة التمارين. العقل والجسد يحتاجان للوقت.”
“بخير…” قال إيفان متثاقلاً، وهو يعلم أن الأمر لن ينتهي بهذه السهولة.
انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”
نهض الدكتور مغادرًا الغرفة بهدوء، لكنه لم يدرك أن إيفان لم يكن يستمع. لقد كان يغوص في أفكاره.
صمت فريدريك للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه يعيد شريط الذكريات المؤلمة في ذهنه. “حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت أكبر مما أستطيع تحملها.”
إنهم لا يفهمون. لن يفهموا أبدًا.
“هل قرأت ملفي؟ ملف 7523؟” سأله إيفان بنبرة تملؤها الشك.
كان الجو ثقيلاً في صباح فبراير، حين تسلل ضوء الشمس الخافت عبر النوافذ العالية، ليضفي على الغرفة جوًا من التوتر الذي لم يتبدد برغم دفء النهار.
“أفهم ذلك، لكن الاختبارات التي أجريناها عليك تشير إلى أنك في حالة جيدة.” قال الدكتور بحذر، محاولًا تهدئة الوضع.
جلس إيفان بهدوء أمام الطاولة المعدنية، متأملًا الكيان الجالس مقابله. من الواضح أنه كان إنسانًا في وقتٍ ما، لكن تحوّله إلى ما هو عليه الآن جعله أقرب إلى كابوس حي. فريدريك، الذي صار يعرف الآن بـالمسخ المسكون، بدا كأنه تجسيد لعالم آخر، بشرة مشوهة تمتزج فيها الألوان بين الأحمر والرمادي بطريقة غير متجانسة، وكأنها خرائط معقدة على سطح جسمه الهزيل. كان فريدريك طويل القامة، أطول مما كان يتوقعه أي شخص، لكن هزاله الشديد جعل وزنه لا يتجاوز 130 كيلوجرامًا. ومع ذلك، ورغم هذا الجسد الضعيف، كان قد شاهد بالأمس كيف خدش فريدريك سطح الطاولة المعدنية الصلبة بكفه العاري، وكأن القوة الحقيقية تختبئ تحت مظهره الهش. بجوار مقعده، وقفت مشاية ذات أربع عجلات، علامة على هشاشة جسده الجسدي، لكنها لم تكن كافية لإخفاء الخطر الكامن داخله.
نظرت إليزابيث إلى إيفان بعينيها الثاقبتين، وتحدثت بنبرة متماسكة: “السيد ديمونت، سنقوم أولاً بتأمين المكان. تأكد من عدم وجود أعداء أو تدابير سحرية مضادة قبل أن نسمح لك بالدخول.”
“صباح الخير،” قال فريدريك بصوت مبحوح، تردد في نبرته لكنه لم يخلُ من شيء يشبه السخرية.
إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”
وفجأة، تحول العالم من حوله. لم يعد في المبنى، ولم يعد يسمع أصوات الجنود أو يشعر بالهواء الرطب. كان في مكان آخر، مظلم تمامًا. شعر وكأنه يسقط من مكان مرتفع، لكن لم يكن هناك أرض تحت قدميه. كانت السماء مليئة بالضباب، والأفق يتلاشى في العدم. أصابته دوامة من الدوار، وعيناه تحاولان التكيف مع الظلام المتزايد.
“صباح الخير، فريدريك،” رد إيفان بحذر، مدركًا أن هذه الجلسة ستكون أصعب مما توقع. “هل نمت جيدًا؟ هل كانت غرفتك مريحة بما فيه الكفاية؟”
كان استخراج إيفان من الواقع البديل المسمى “الضباب المكسور” أشبه بمحاولة الإمساك بظلال ذاكرة بعيدة. الصور والأصوات كانت تتلاشى من ذهنه، مخلفة وراءها ضبابًا ثقيلاً يضغط على صدره. كل شيء كان يبدو مشوشًا وكأنما خرج لتوه من حلم طويل وكابوسي. الأطباء أخبروه لاحقًا أنه كان يهذي حين أُدخل إلى المستشفى، يهتف بكلمات غير مفهومة، يحرك يديه في الهواء وكأنه يطارد أشباحًا. عدوانيته تجاه الموظفين كانت شديدة، حتى أن بعضهم وصفه بالمسكون أو الملعون. بعد عدة أيام من المقاومة، قرروا وضعه في غيبوبة صناعية، جسده وروحه بحاجة إلى الراحة، إلى الهدوء. تلك الغيبوبة كانت فرصة لجسده ليشفى، وعقله ليعيد ترتيب قطع أحجيته المبعثرة، بمساعدة تطهير سحري دقيق كان يُجرى في الخفاء.
رمقه فريدريك بنظرة مستقيمة وحادة، وكأنه يتفحصه بدقة أكبر مما هو ظاهر. “أفضل بكثير من الأيام التي قضيتها بين أنقاض ذالك المكان.”
حدّقت كلارا في الملفات على السرير، ثم نظرت إليه بفضول وهي تسأله: “إلى أين ستذهب؟”
“أجل، لا مقارنة بين غرفة بسرير حقيقي وبين مرتبة بالية في زاوية مظلمة.” حاول إيفان تخفيف حدة التوتر بكلمات بسيطة، لكن تأثيرها كان ضئيلًا على فريدريك، الذي بدا وكأنه غير معني بالحديث عن مثل هذه التفاصيل الصغيرة.
“النتائج… طبيعية تمامًا. لا توجد مشاكل عضوية.”
“ما الذي تريد مناقشته اليوم، أيها العميل؟” سأله فريدريك ببرود، نبرته تقطع أي محاولة لتخفيف الجو.
صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”
أخذ إيفان نفسًا عميقًا، يعلم أن هذه الجلسة لن تكون عادية. “بالأمس تحدثنا عن الهجمات التي أدت إلى وفاة أفراد فريقنا. نحن بحاجة إلى فهم ما حدث هناك بشكل أوضح، فريدريك.”
عندما استيقظ، كان العالم من حوله يبدو غريبًا، كأنما ينظر إلى واقعه من وراء زجاج مغبش.
وضع فريدريك رأسه بين يديه، محنيًا جسده النحيل فوق الطاولة، مرفقيه يرتكزان على سطحها البارد. بدا أن التفكير في الأحداث يعيد له ذكريات ثقيلة. “المخلوقات لم تكن كما بدت في البداية… لقد تغيرت. عندما واجهناها أول مرة، هاجمت بوحشية، بلا نظام. لكنها لاحقًا… بدت وكأنها تعمل بتنسيق.”
رفعت كلارا حاجبًا رفيعًا، ثم نقرت بخفة على الملفات التي تحملها. “حدثت بعض التطورات أثناء فترة نقاهتك، إيفان. تطورات تتعلق بما حدث في ‘الضباب المكسور’. وأحتاج منك أن تكون مستعدًا.”
“بعد غيبوبة طويلة كهذه، من المتوقع أن تفقد كتلة عضلية نتيجة الضمور. لكن ما حدث معك غير مألوف، جسدك لم يتأثر.”
رفع إيفان حاجبيه قليلًا، مستشعرًا أن الحديث يتخذ منحى أكثر تعقيدًا. “تنسيق؟ ماذا تقصد؟”
بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.
“في البداية، كانت تصرفاتهم غريزية، مثل حيوانات جائعة. لكن عندما تراجعنا إلى موقع آثار القرص الدائري، بدأت تلك المخلوقات تتصرف وكأنها تتبع خطة. محاصرتنا، اختيار اللحظات المناسبة للهجوم. كان هناك شيء خلف كل هذا.”
“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.
“هل تتحدث عن نوع من التخاطر؟” سأله إيفان، محاولًا أن يجد تفسيرًا منطقيًا لهذا التنسيق الغريب.
“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.
فرد فريدريك ظهره قليلاً، نظرته أصبحت أكثر عمقًا وعيونه مملوءة بشيء من الظلال. “لا، لم يكن تخاطرًا. لو كان كذلك، لشعرت به. كان الأمر أشبه بشيء أعظم منهم جميعًا يتحكم فيهم من الخلف ولهذا السبب أحتاج إلى العودة إلى هناك.”
ردت عليه بصوت ثابت: “لا أستطيع إثبات ذلك بعد، لكن إذا قرأت ملفات ‘لغز الضباب المكسور’ و طائفة الظلال، أعتقد أنك ستفهم ما أعنيه.”
أخذ إيفان لحظة للتفكير، محاولًا أن يستوعب ما يسمعه. “كيان يتحكم بهم؟ ولمَ لم تخبرني عن هذا من قبل؟ ما علاقتك بهذا الكيان؟”
صمت فريدريك للحظة، ثم رفع رأسه ببطء، وكأنه يعيد شريط الذكريات المؤلمة في ذهنه. “حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت أكبر مما أستطيع تحملها.”
أومأت كلارا برأسها ببطء: “نعم، وأعتقد أنها ليست الوحيدة. تذكّر تلك الجثة التي اكتشفناها، اليعسوب العملاق الذي له أطراف شبيهة بأيدي البشر؟ نحن الآن نعتقد أنها ليست كيانًا منفردًا، بل جزء من سلسلة من الشذوذات.”
شعر إيفان بأن هناك ما هو أكثر مما قيل حتى الآن، فقرر أن يسلك طريقًا آخر في الحوار. “إذن، فلنتحدث عما حدث في النهاية. ما الذي جرى بالتحديد؟”
“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”
أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”
أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.
“لكنك نجوت، أليس كذلك؟” سأل إيفان بنبرة حذرة.
انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”
“لا يوجد عودة إلى الوراء في هذه المرحلة؛ كل ما أحتاجه منك هو اللحاق بالتفاصيل. ‘لغز الضباب المكسور’ هو تحقيق بدأته كتيبة الفرسان التاسعة بشأن طائفة يبدو أن لها صلات بما يُعرف بـ ‘الكيان الممزق’. أما ملف طائفة الظلال’ فهو تحقيق لم تكن جزءًا منه، لكنه يرتبط بالأحداث التي واجهتها أثناء تحقيقنا في الشذوذ.”
شعر إيفان بزيادة في دقات قلبه، إدراكه بأن هناك شيئًا أكبر يلوح في الأفق. “كيان؟ من هو هذا الكيان؟”
أخذ فريدريك نفسًا عميقًا، ورأى إيفان أن قبضتيه كانتا ترتجفان بشكل طفيف. “لقد ماتوا جميعًا، كلهم… المخلوقات اقتحمت المكان، ومزقتهم إربًا. لم يكن بوسعي فعل شيء، سوى المشاهدة.”
نهض فريدريك بصعوبة، معتمدًا على مشايته ليقف. سار بخطوات ثقيلة نحو الباب، لكن أحد الحراس المسلحين أوقفه عند العتبة. نظر فريدريك للحارس، ثم أعطى إيفان نظرة مملوءة بالتعب.
إنهم لا يفهمون. لن يفهموا أبدًا.
شعر إيفان بزيادة في دقات قلبه، إدراكه بأن هناك شيئًا أكبر يلوح في الأفق. “كيان؟ من هو هذا الكيان؟”
حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.
بعد 6 أشهر
.
.
.
لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
.
.
تقدم إيفان بخطوات حذرة، وعيناه تتفحصان المذبح. “هل تم استخدامه مؤخرًا؟”
تجمد إيفان في مكانه للحظة، ثم سأل بدهشة: “ماذا تقصدين؟ هل هناك المزيد من الكيانات المماثلة لذلك اليعسوب العملاق؟”
ابتعد إيفان ديمونت عن فرقة العمليات وأخرج جهاز التسجيل الخاص به. كان الهواء مفعمًا برائحة الرطوبة والعفن، بينما كانت جدران المباني المتآكلة ترتفع من حوله، شاهدةً على عصر مضى. كل خطوة كان يخطوها بين الأنقاض تعزف نغمة خافتة من التدهور والخراب. قال بصوت هادئ مبحوح من التأمل: “تبدو هذه المباني وكأنها شهدت مئات السنين من التآكل. استنادًا إلى السجلات التي وجدتها في أنقاض موقع الآثار، أظن أن هذه المباني قديمة لدرجة أنها تحكي قصصًا نسيناها منذ زمن بعيد. ورغم أن تصميمها يبدو غريبًا عن أي شيء في حضارتنا، إلا أن البناء صلب، كأنه تحدى الزمن.”
على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”
وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”
وقف إيفان لحظة، ثم رفع يده بإشارة مطمئنة دون أن يلتفت، متمتمًا لنفسه: “هناك دائمًا أشياء نجهلها.” وضع إيفان يده على جهاز التسجيل مرة أخرى، عيناه تلتقطان بقايا الهياكل العظمية المتناثرة حوله كأشباح ماضية: “ثمة عظام هنا، ربما بقايا مئات… لا، آلاف الأشخاص. لكن أين الجثث؟ كيف يمكن لمدينة بهذا الحجم أن تختفي أجساد سكانها هكذا؟” توقف عن التسجيل، ثم رفع صوته لينادي على ألفريد: “ألفريد، أريد استكشاف أحد هذه المباني.”
ألفريد، بملامحه الجامدة التي لا تكاد تتغير، أومأ برأسه بإشارة موافقة. ثم استدار وأشار بيده إلى اثنين من الجنود: ثيودور هارتنيل وإليزابيث ويلكوكس. كان ثيودور، بفكه المحدد وعيونه الجليدية، صورة للثبات الذي قد يثير التوتر لدى من حوله. أما إليزابيث، فكان شعرها الأحمر المتلألئ تحت ضوء الشمس المتسلل من خلال الغيوم الداكنة، وكأنه شعلة في الظلام. كانت ترتدي سلسلة متدلية حول عنقها، تمائمها المعدنية تتراقص بخفة مع كل حركة.
.
صمت إيفان لوهلة، مستذكرًا تلك الأيام الأولى. لم يكن هو نفسه، لم يكن يعرف حتى من يكون حينها. كان مجرد مزيج من الغضب والخوف.
نظرت إليزابيث إلى إيفان بعينيها الثاقبتين، وتحدثت بنبرة متماسكة: “السيد ديمونت، سنقوم أولاً بتأمين المكان. تأكد من عدم وجود أعداء أو تدابير سحرية مضادة قبل أن نسمح لك بالدخول.”
أومأ إيفان برأسه بخفة، وقد بدا وكأن عينيه تغوصان في ظلال المكان، تتأملان كل زاوية وكل حجر. وقف على مسافة وهو يراقب الجنود أثناء قيامهم بالتفتيش، وعقله ينشغل بالتفكير في الأسرار التي قد تكمن خلف هذه الجدران المتهالكة. بعد دقائق معدودة، سمع صوت إليزابيث يناديه من الداخل.
الليلة لم تكن كسابقاتها. الرياح، باردة بشكل غير معتاد، هبت عبر شوارع سيلفاريوم الضيقة وكأنها تهمس بأسرار قديمة منسية. تحت السماء المظلمة التي يهيمن عليها القمر الدموي، بدت الأبراج المتصدعة والأبنية البالية وكأنها هياكل عظمية عملاقة، شاهدة على عصر مضى، تركت لتنهار ببطء تحت وطأة الزمن.
دخل المبنى بتروٍ، وبمجرد أن خطى إلى الداخل، انتشرت الرطوبة حوله مثل عباءة، وكأنها تحاول سحب حرارة جسده. كان الضوء ضعيفًا، وما تبقى منه كان يخترق النوافذ المتشققة بصعوبة، ليرسم أشكالًا مشوشة على الجدران المتداعية. وقفت إليزابيث بجوار مذبح مصنوع من العظام الملتوية، وكأن الأوتار قد التفت حولها لتصنع مشهدًا مروّعًا. الدماء عليه كانت لا تزال تلمع، وكأنها حديثة العهد.
تقدم إيفان بخطوات حذرة، وعيناه تتفحصان المذبح. “هل تم استخدامه مؤخرًا؟”
هزت إليزابيث رأسها بخفة وهي تنظر إلى الغبار الذي يكسو المكان. “لا أعتقد ذلك. الغبار يغطي كل شيء هنا، حتى الأرضية. آثار أقدامنا هي الوحيدة الموجودة.”
“إذن لماذا الدماء لا تزال رطبة؟”
صافرات الإنذار المعتادة قطعت السكون، صاخبة مثل نداءات موت معلنة. انطلقت كتيبة الملك في الأرجاء، خطواتهم كانت إيقاعاً ثقيلاً يخترق الشوارع المظلمة والمبللة بالأمطار المتجمعة في برك صغيرة بين الحجارة العتيقة. كانت الأرض تحتهم ملساء من الرطوبة، تلمع تحت ضوء مصابيح الغاز المهتز بفعل الرياح، تلك المصابيح التي تلقي بظلال مشوهة وطويلة على الجدران المنهارة. أما الشوارع، فقد خلت من سكانها كما لو أن المدينة لفظتهم إلى جحورها، ليختبئوا من الليل ووحوشه.
توقف الزمن للحظة، وكأن الغرفة بأكملها كانت تنتظر إجابتها. هزت كتفيها بتردد، وقالت: “لا أعلم.”
“أفهم ذلك، لكن الاختبارات التي أجريناها عليك تشير إلى أنك في حالة جيدة.” قال الدكتور بحذر، محاولًا تهدئة الوضع.
اقترب إيفان من المذبح، وملامح وجهه توحي بمزيج من الفضول والرعب. كانت العظام منحوتة بشكل دقيق، وكأنها شكلت بشكل طبيعي لتتخذ هذه الهيئة. همس بصوت منخفض: “كيف تم صنع هذا الشيء؟”
أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.
رد ثيودور، الذي كان يقف بالقرب، بنبرة باردة: “أعتقد أنه نُحِت أو نَمَا بطريقة غير طبيعية. يبدو وكأنه حي، لكنه متجمد في لحظة ما.”
نظر إيفان إلى المذبح بعينين متسعتين: “ما هذا السحر؟”
أجابت إليزابيث بصوت منخفض، وكأنها تهمس لنفسها: “إنه نوع من السحر العضوي… ‘سحر اللحوم’. يستخدم للتحكم في النمو الطبيعي للمادة الحية. نوع من السحر البدائي المرتبط بالطوائف القديمة.”
“ما الذي تريد مناقشته اليوم، أيها العميل؟” سأله فريدريك ببرود، نبرته تقطع أي محاولة لتخفيف الجو.
ضيق إيفان عينيه وسأل: “هل تعتقدين أنه من طائفة الطلسم الفاني؟”
ابتسمت إليزابيث بمرارة، وقالت: “ربما. هم بالتأكيد يستخدمون هذا النوع من السحر.”
أصوات خطوات الأطباء في الممر البعيد كانت تكاد تُسمع، لكن إيفان لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. ما سمعه للتو كان يُرسخ إحساسه بأن شيئًا خاطئًا يحدث داخله.
نظر إيفان مجددًا إلى المذبح، وكأن هناك شيئًا غامضًا يجذبه نحو هذا الشيء. “لدينا كاهن كارسيست في القصر الشمالي. ربما يجب أن أطرح عليه بعض الأسئلة حول هذا.”
نظر إيفان مجددًا إلى المذبح، وكأن هناك شيئًا غامضًا يجذبه نحو هذا الشيء. “لدينا كاهن كارسيست في القصر الشمالي. ربما يجب أن أطرح عليه بعض الأسئلة حول هذا.”
تقدمت إليزابيث بخطوة وقالت: “ألم يكن في موقع الآثار عندما اختفى؟”
دخلت كلارا كرافت، المديرة الصارمة للمركز الطبي، بخطوات واثقة. كانت ترتدي زيًا أنيقًا يشع بالاحترافية، ولكن أكثر ما لفت الانتباه كان البرود الذي يحيط بها، مثل هالة من الثلج حولها. جلست على كرسي قريب، ووضعت ساقًا فوق الأخرى بخفة، بينما كانت توازن ثلاثة ملفات سميكة على ركبتيها.
“نعم، هذا صحيح. لكنه قد يعرف شيئًا.”
تقدم إيفان نحو المذبح ببطء، كان بإمكانه أن يشعر بالقوة الغريبة المنبعثة منه. ركع أمامه، وتأمل في تفاصيله الدقيقة: العظام المتشابكة، الأوتار المتداخلة، والجلد الذي كان يغطي أجزاء منه. بدا المذبح وكأنه مخلوق حي، لكنه متجمد في لحظة معينة من الزمن. “ماريا، هل هذا الشيء نشط؟”
لكن إيفان لم يكن راضيًا. تلك الكلمات لم تكن تشفيه، بل زادت من شعوره بالغموض الذي يلتف حوله. لقد رأى أشياء لا يمكن نسيانها، عايش أحداثًا تخترق أعماق الوعي، لكنها لم تكن مجرد “صدمة” كما يقولون.
أجابت إليزابيث: “هناك بقايا من السحر الفاسد، لكنني أعتقد أن قدرتك على تحسس السحر قد تكون قادرة على تعطيل أي شيء متبقٍ.”
وفي نهاية هذا الممر المتعرج، ظهر أمامهم المنزل. كان بناءً ضخماً، يظهر ككائن مهيب في وسط الظلام. واجهته الأمامية كانت تزينها أعمدة حجرية شاهقة، متآكلة بفعل الزمن، تقف متباعدة وكأنها أسنان متكسرة. على جانبي الباب الكبير، كانت الأبواب محاطة بزخارف حديدية ملتوية، كما لو أنها تحاول الإمساك بأي شخص يجرؤ على الاقتراب. الجدران العالية مغطاة بطبقة من النباتات المتسلقة، أوراقها تلتف حول الطوب القديم مثل أصابع ميتة تبحث عن حياة لم تعد موجودة.
نهض إيفان ببطء، يشد كتفيه المتعبين، ويدلك رقبته المتصلبة. “تقريبًا… ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا، كلارا؟”
أخذ إيفان نفسًا عميقًا، ثم قال: “احذري مني.” مد يده بحذر، ولَمَس المذبح بأطراف أصابعه. كان البرد يسري في جسده وكأنه يتغلغل إلى عظامه.
وفي نهاية هذا الممر المتعرج، ظهر أمامهم المنزل. كان بناءً ضخماً، يظهر ككائن مهيب في وسط الظلام. واجهته الأمامية كانت تزينها أعمدة حجرية شاهقة، متآكلة بفعل الزمن، تقف متباعدة وكأنها أسنان متكسرة. على جانبي الباب الكبير، كانت الأبواب محاطة بزخارف حديدية ملتوية، كما لو أنها تحاول الإمساك بأي شخص يجرؤ على الاقتراب. الجدران العالية مغطاة بطبقة من النباتات المتسلقة، أوراقها تلتف حول الطوب القديم مثل أصابع ميتة تبحث عن حياة لم تعد موجودة.
وفجأة، تحول العالم من حوله. لم يعد في المبنى، ولم يعد يسمع أصوات الجنود أو يشعر بالهواء الرطب. كان في مكان آخر، مظلم تمامًا. شعر وكأنه يسقط من مكان مرتفع، لكن لم يكن هناك أرض تحت قدميه. كانت السماء مليئة بالضباب، والأفق يتلاشى في العدم. أصابته دوامة من الدوار، وعيناه تحاولان التكيف مع الظلام المتزايد.
نهض فريدريك بصعوبة، معتمدًا على مشايته ليقف. سار بخطوات ثقيلة نحو الباب، لكن أحد الحراس المسلحين أوقفه عند العتبة. نظر فريدريك للحارس، ثم أعطى إيفان نظرة مملوءة بالتعب.
ما هذا المكان؟
مِلكِي…
على بُعد عدة أمتار، نادى عليه القائد ألفريد كينغستون بنبرة متزنة ولكنها محذرة: “إيفان، لا تبتعد كثيرًا. المنطقة ليست آمنة بالكامل. هناك أشياء نجهلها.”
اجتاحت جسده موجة باردة، وكأن روحه تُسحب منه. شعر بجوع عميق، جوع يلتهمه من الداخل. الضباب كان يتسلل إلى داخله، يملأ فمه وأذنيه وعينيه. ثم جاء الألم… ألم لا يوصف.
تنهّد إيفان ببطء، ونظر إلى الملفات المتناثرة أمامه. كانت ثقيلة، ليست فقط بوزنها المادي، ولكن بثقلها المعنوي. أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يعترف بصوت منخفض: “لا أعرف ماذا أفعل هنا. ليس لدي القوة للغوص في كل هذا بعد الآن.”
“كل شخص يتفاعل مع الصدمات بطرق مختلفة، ما تمر به من ألم نفسي قد يترجم إلى شعور جسدي.” حاول الدكتور أن يفسر بحذر.
كان استخراج إيفان من الواقع البديل المسمى “الضباب المكسور” أشبه بمحاولة الإمساك بظلال ذاكرة بعيدة. الصور والأصوات كانت تتلاشى من ذهنه، مخلفة وراءها ضبابًا ثقيلاً يضغط على صدره. كل شيء كان يبدو مشوشًا وكأنما خرج لتوه من حلم طويل وكابوسي. الأطباء أخبروه لاحقًا أنه كان يهذي حين أُدخل إلى المستشفى، يهتف بكلمات غير مفهومة، يحرك يديه في الهواء وكأنه يطارد أشباحًا. عدوانيته تجاه الموظفين كانت شديدة، حتى أن بعضهم وصفه بالمسكون أو الملعون. بعد عدة أيام من المقاومة، قرروا وضعه في غيبوبة صناعية، جسده وروحه بحاجة إلى الراحة، إلى الهدوء. تلك الغيبوبة كانت فرصة لجسده ليشفى، وعقله ليعيد ترتيب قطع أحجيته المبعثرة، بمساعدة تطهير سحري دقيق كان يُجرى في الخفاء.
إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”
عندما استيقظ، كان العالم من حوله يبدو غريبًا، كأنما ينظر إلى واقعه من وراء زجاج مغبش.
زارته إليزابيث مرارًا منذ استيقاظه، وملامح وجهها مغطاة بالأسى والندم، تعتذر عن عدم قدرتها على إدراك ما حدث له في الوقت المناسب.
وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”
صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”
لم يكن هذا خطأها على أي حال. لم يكن ما حدث نتيجة سحر، بل كان شيئًا آخر. كيان فضائي هائل، غريب من عالم آخر، كان يتغذى على المفاهيم بشكل عنيف ومروع. في عمق هذا الكيان كان الجوع، جوع غير مرئي يعذب العقل ويهز الوعي. إيفان كان يعاني من مرارة استحالة التصدي لهذا الكيان، وكان يتساءل في نفسه: “كيف كان بإمكانها أن تعلم؟”
في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله.
“أنا لا أقول أنني لم أتحسن. لكنني لم أعد كما كنت. هذا الشيء أفسدني.”
صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”
بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.
نظر إيفان مجددًا إلى المذبح، وكأن هناك شيئًا غامضًا يجذبه نحو هذا الشيء. “لدينا كاهن كارسيست في القصر الشمالي. ربما يجب أن أطرح عليه بعض الأسئلة حول هذا.”
كان العرق يتصبب من ظهره كأنه شلال صغير، بينما كانت أشعة الشمس الدافئة تتسلل عبر الزجاج المقوى لغرفة العلاج. الجو كان خانقًا، رغم برودة المكان، وكان كل شيء يبدو أصعب مما يجب. عضلاته كانت ترتجف، وذهنه كان مشوشًا، مثل سيفين يتصادمان في رأسه بلا هوادة. والأمر الأسوأ، تلك الرغبة المفاجئة التي كانت تعتمل في داخله طوال الوقت، شعور عدائي كاد أن يدفعه لمهاجمة كل من يقترب منه. لقد تغير شيء بداخله، شيء لا يستطيع فهمه حتى الآن.
نهض إيفان ببطء، يشد كتفيه المتعبين، ويدلك رقبته المتصلبة. “تقريبًا… ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا، كلارا؟”
بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.
“ربما عليّ أن أتحدث إلى فريدريك.”كان هذا التفكير يراوده باستمرار. “لم أكن أعلم حينها أنه قضى أكثر من عشرين عامًا في مراقبة ذلك الكيان اللقيط الذي يتغذى على الضباب.”
“لقد وصلنا…” قال إيفان بصوت خافت، عيناه تتفحصان الأبواب العتيقة، والمجهول الذي ينتظر خلفها.
بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.
لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
ظلت كلارا صامتة لبرهة، تجلس منتصبة، ويديها متشابكتين على حجرها. عيناها كانت تحدق في الفراغ كما لو كانت تراجع ذكريات مؤلمة، قبل أن تتنفس ببطء وتبدأ الحديث: “أردت مناقشة ذلك بعد أن تقرأ الملفات، لكن لا بأس. لدي شعور قوي بأن الجثة التي وجدناها تحت مدينة فالدروك لم تكن حالة فريدة من نوعها. لدينا المزيد من الأدلة.”
دخلت كلارا كرافت، المديرة الصارمة للمركز الطبي، بخطوات واثقة. كانت ترتدي زيًا أنيقًا يشع بالاحترافية، ولكن أكثر ما لفت الانتباه كان البرود الذي يحيط بها، مثل هالة من الثلج حولها. جلست على كرسي قريب، ووضعت ساقًا فوق الأخرى بخفة، بينما كانت توازن ثلاثة ملفات سميكة على ركبتيها.
“هل انتهيت من تمارينك؟” سألت بنبرة رسمية، لا تهتم كثيرًا بالإجابة.
“هل قرأت ملفي؟ ملف 7523؟” سأله إيفان بنبرة تملؤها الشك.
انحنى فريدريك ببطء، وضعية جسده أصبحت مثقلة بالندم. “لأنني اتصلت به… الكيان الذي كان يسيطر عليهم.”
نهض إيفان ببطء، يشد كتفيه المتعبين، ويدلك رقبته المتصلبة. “تقريبًا… ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا، كلارا؟”
في قلبه، كانت مشاعر الندم والتساؤل تتصارع. كان يعلم أنه لا يمكن لوم إليزابيث بالكامل، فحتى لو كانت قريبة منه، فإن الغموض الذي أحاط بالكيان كان أكبر من أي تفسير بسيط. فريدريك الذي كان يعتبره مصدرًا للمعرفة، كان قد غمره في ضباب من الغموض، ويبدو أن كل التفاصيل كانت مفقودة في تفاصيل هذا الكيان القاسي. “كيف كان يمكنني أن أعلم أن هذا الكيان كان يتواجد في كل شيء من حولنا؟” تساءل بمرارة، وهو يحاول التقاط شظايا الذاكرة الضبابية والغامضة التي تجمعت في عقله.
رفعت كلارا حاجبًا رفيعًا، ثم نقرت بخفة على الملفات التي تحملها. “حدثت بعض التطورات أثناء فترة نقاهتك، إيفان. تطورات تتعلق بما حدث في ‘الضباب المكسور’. وأحتاج منك أن تكون مستعدًا.”
أجابت إليزابيث: “هناك بقايا من السحر الفاسد، لكنني أعتقد أن قدرتك على تحسس السحر قد تكون قادرة على تعطيل أي شيء متبقٍ.”
أخذ إيفان نفسًا عميقًا، محاولًا كبح مشاعر التوتر التي بدأت تتراكم داخله. “هل يتعلق الأمر بـ فريدريك؟”
بينما كان إيفان يمارس تمارينه اليومية على الأرضية، كان يشعر بجسده يُقاومه. كل عضلة كانت متصلبة، وكأنها غريبة عنه. كان الأمر وكأنه يعيد اكتشاف جسده، بعد أن عاش في جسد آخر لفترة طويلة. كانت هذه العودة إلى الجسد الطبيعي تشبه ارتداء بدلة جديدة لأول مرة، ضيقة على المقاس وغير مريحة. ربما كان الطبيب أندرسون محقًا؛ كان إيفان بحاجة إلى وقت أكثر للتعافي. لكن، بعد أن فقد سبعة أشهر من حياته بسبب ذلك الكيان اللعين، لم يكن إيفان مستعدًا لقضاء المزيد من الوقت في الانتظار.
أومأت كلارا برأسها ببطء: “نعم، وأعتقد أنها ليست الوحيدة. تذكّر تلك الجثة التي اكتشفناها، اليعسوب العملاق الذي له أطراف شبيهة بأيدي البشر؟ نحن الآن نعتقد أنها ليست كيانًا منفردًا، بل جزء من سلسلة من الشذوذات.”
“ليس تمامًا، لكنه جزء من الأمر. تم نقله مرة أخرى إلى ‘الظلال المحجوبة’، وأغلقنا البوابة خلفه. قال إن وجوده هناك هو الشيء الوحيد الذي يمنع الكيان من العودة إلى عالمنا.”
.
شعر إيفان بالغضب يشتعل بداخله. “لماذا أعادوه إلى هناك؟ ذالك المكان عبارة عن جحيم حي.
دخل المبنى بتروٍ، وبمجرد أن خطى إلى الداخل، انتشرت الرطوبة حوله مثل عباءة، وكأنها تحاول سحب حرارة جسده. كان الضوء ضعيفًا، وما تبقى منه كان يخترق النوافذ المتشققة بصعوبة، ليرسم أشكالًا مشوشة على الجدران المتداعية. وقفت إليزابيث بجوار مذبح مصنوع من العظام الملتوية، وكأن الأوتار قد التفت حولها لتصنع مشهدًا مروّعًا. الدماء عليه كانت لا تزال تلمع، وكأنها حديثة العهد.
تنهدت كلارا بصوت هادئ لكنها مستسلمة، وكأنها اعتادت على تلك الأسئلة الصعبة. “لقد طلب ذلك بنفسه إيفان. وأوضح أن هذا هو الحل الوحيد لإبقاء الكيان بعيدًا. لو بقي هنا، ربما كنا نخسر أكثر من مجرد حياة واحدة.”
أخذت المديرة الملفات الثلاثة، ووضعتها بين يديه. “أريدك أن تراجع هذه الملفات. الملف الأول عن ‘لغز الضباب المكسور’، الثاني يتعلق بـ ‘طائفة الظلال ، والثالث عن ‘الكيان الممزق’. ستفهم كل شيء بعد أن تقرأها.”
زارته إليزابيث مرارًا منذ استيقاظه، وملامح وجهها مغطاة بالأسى والندم، تعتذر عن عدم قدرتها على إدراك ما حدث له في الوقت المناسب.
كانت يدي إيفان ترتجف بينما كان يمسك بالملفات. نظر إليها ثم قال بصوت ضعيف: “أنا لست في حالة جيدة يا كلارا. لا أستطيع… لا أستطيع التعامل مع كل هذا الآن. ما حدث لي… لقد دمرني.”
ما هذا المكان؟
“لم أنم منذ استيقاظي… الألم لا يفارقني.” أجاب إيفان بصوت متحجر، تعبيرات وجهه تعكس الألم الداخلي الذي يعيشه.
“لا يوجد عودة إلى الوراء في هذه المرحلة؛ كل ما أحتاجه منك هو اللحاق بالتفاصيل. ‘لغز الضباب المكسور’ هو تحقيق بدأته كتيبة الفرسان التاسعة بشأن طائفة يبدو أن لها صلات بما يُعرف بـ ‘الكيان الممزق’. أما ملف طائفة الظلال’ فهو تحقيق لم تكن جزءًا منه، لكنه يرتبط بالأحداث التي واجهتها أثناء تحقيقنا في الشذوذ.”
انفصل قسم من الكتيبة، يقوده الملازم إيفان ديمونت، رجلاً ذا ملامح صارمة لا تعكس إلا شبح التعبير. كان يرتدي معطفًا ثقيلًا داكن اللون، يرفرف مع كل حركة وكأنه يمتزج مع الليل. رأسه مغطى بقبعة سوداء متينة، ذات حواف عريضة تقيه الأمطار المتساقطة بخفة، تاركة قطرات تتجمع ثم تنزلق على طول المعطف لتتلاشى في الشوارع القاتمة. معه تسير كتيبته، جنود مدججون بالسلاح، يتنقلون بين الأزقة وكأنهم أشباح في ظلمة الليل، أسلحتهم الباردة تلمع في الظلام، يلتف حولهم ضوء المصابيح الغازية الشاحبة.
إيفان عبس للحظة، ثم سأل بنبرة مستغربة: “لماذا تحمل الملفات هذه العلامة الموحدة؟ ألا يبدو هذا غير عادي بعض الشيء؟”
“وما الذي تقوله هذه النتائج؟” سأل إيفان، وهو يعرف مسبقًا أن الإجابة لن تكون مريحة.
ابتسمت كلارا برفق، لكن البرود لم يختفِ من صوتها: “بعد مراجعة كل الملفات، قمت بإعادة تصنيفها للإشارة إلى ارتباطها. لا أخطط لفعل ذلك دائمًا، لكن هذه الشذوذات الثلاثة متصلة بطريقة تتجاوز الأحداث الفردية.”
جلست على حافة سرير المستشفى، تعبيرات وجهها تعكس تعقيدات الأمور التي لم تكن مستعدة لمواجهتها. بعد برهة، همست: “لماذا لا يوجد سلام في هذا العالم؟”
“ربما عليّ أن أتحدث إلى فريدريك.”كان هذا التفكير يراوده باستمرار. “لم أكن أعلم حينها أنه قضى أكثر من عشرين عامًا في مراقبة ذلك الكيان اللقيط الذي يتغذى على الضباب.”
رد إيفان بلهجة رسمية وهو ينظر في عينيها، محاولاً ألا يُظهر الكثير من الشفقة: “لدي خطة جاهزة للتنفيذ، لكنني بحاجة إلى الموافقة أولاً. بعد الحصول على تلك الموافقة، سأبدأ التنفيذ.”
حدّقت كلارا في الملفات على السرير، ثم نظرت إليه بفضول وهي تسأله: “إلى أين ستذهب؟”
رد عليها ببرود مختصر: “هذا الأمر سر، آسف.” كانت كلارا تتوقع الإجابة، لكنها لم تستطع إلا أن تشعر بخيبة أمل خفيفة.
“ربما، لكن هذا غير واضح تمامًا. ما هو واضح هو أن الوضع أكبر مما يمكن لكتيبتنا التعامل معه بمفرده. نحن بحاجة إلى توسيع فرق البحث، وإلى إطلاق برنامج جديد يركز على اكتشاف الشذوذ، وربما استخدام تقنيات خارج نطاق قدرتنا . لأنني إذا كنت على حق، فإن السيد ليل ورعاته لم يقتربوا حتى من إنهاء تدخلهم في عالمنا.”
تنهّد إيفان ببطء، ونظر إلى الملفات المتناثرة أمامه. كانت ثقيلة، ليست فقط بوزنها المادي، ولكن بثقلها المعنوي. أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يعترف بصوت منخفض: “لا أعرف ماذا أفعل هنا. ليس لدي القوة للغوص في كل هذا بعد الآن.”
“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”
إيفان لم يكن مستعدًا للاعتراف بضعفه، لكن هذا ما كان يشعر به بوضوح. جسده كان مستنزفًا، وروحه ثقيلة.
توقف الجنود عند هذا المنزل، تتسلل الرهبة إلى قلوبهم. إيفان، بوجهه الصارم وعينيه اللتين تحملان بريق العزيمة، تقدم خطوة للأمام، وقف أمام الباب الثقيل، الهواء حوله يتثاقل، وكأنهم يقفون على حافة عالم آخر، عالم غارق في الظلام والمجهول.
نظرت إليه بتعاطف غريب، وملامحها شاحبة من التفكير. “ماذا تقصد؟”
جلست على حافة سرير المستشفى، تعبيرات وجهها تعكس تعقيدات الأمور التي لم تكن مستعدة لمواجهتها. بعد برهة، همست: “لماذا لا يوجد سلام في هذا العالم؟”
جلست على حافة سرير المستشفى، تعبيرات وجهها تعكس تعقيدات الأمور التي لم تكن مستعدة لمواجهتها. بعد برهة، همست: “لماذا لا يوجد سلام في هذا العالم؟”
وقف إيفان للحظة، شعوره بالعجز يزداد. “أنا لست باحثًا يا كلارا. أنا مجرد رجل اكتشف فجأة أن لديه قدرات سحرية وحدث أن تم تجنيده، وسعدت بإيجاد مكان لي في جيش الملك، لكن ما حدث في هذا العام كان أبعد من طاقتي. الحقيقة هي أنني لا أستطيع مواكبة كل هذه الفوضى.”
ارتسمت على وجه كلارا تعبيرات من يفهم تمامًا ما يعنيه. قالت بنبرة هادئة لكنها حازمة: “أنت شخص قوي، إيفان، لا يمكنك التراجع الآن.”
“مع كل احترامي لك، هذا مجرد هراء علمي!” صرخ إيفان فجأة، غاضبًا من تلك التفسيرات الباردة. “ما رأيته لم يكن مجرد هلوسة. هناك شيء في هذا العالم يريد أن يبتلع كل شيء. إنه ضخم، غريب… ويسيطر على كل ذرة حوله.”
صمت إيفان لبرهة، محاولاً البحث عن الكلمات. “لقد أمضيت عامًا كاملًا في العمل على هذه القضايا في مدينة فالدروك، وها أنا اليوم لا أزال عالقًا في هذا الكابوس. لماذا لا تخبرينني فقط لماذا يجب ألا أستقيل؟”
الطرق كانت ضيقة، الجدران المتهالكة على جانبي الشارع تتكدس فوق بعضها البعض، تشقها نوافذ صغيرة ذات إطارات خشبية باهتة، تغطيها الستائر الثقيلة التي لا تُفتح أبدًا. الواجهات كانت قديمة، يغلب عليها اللون الداكن بفعل الغبار الذي تراكم على مر العقود. الأبواب العتيقة المصنوعة من خشب البلوط تزينها زخارف معقدة، لكنها فقدت بريقها منذ زمن طويل، محفورة بأثر الزمن والرطوبة. كان بوسع أي مارة أن يشعروا بأن هذه الأبنية قد شهدت أكثر مما تتحمله.
لم يكن هذا خطأها على أي حال. لم يكن ما حدث نتيجة سحر، بل كان شيئًا آخر. كيان فضائي هائل، غريب من عالم آخر، كان يتغذى على المفاهيم بشكل عنيف ومروع. في عمق هذا الكيان كان الجوع، جوع غير مرئي يعذب العقل ويهز الوعي. إيفان كان يعاني من مرارة استحالة التصدي لهذا الكيان، وكان يتساءل في نفسه: “كيف كان بإمكانها أن تعلم؟”
ظلت كلارا صامتة لبرهة، تجلس منتصبة، ويديها متشابكتين على حجرها. عيناها كانت تحدق في الفراغ كما لو كانت تراجع ذكريات مؤلمة، قبل أن تتنفس ببطء وتبدأ الحديث: “أردت مناقشة ذلك بعد أن تقرأ الملفات، لكن لا بأس. لدي شعور قوي بأن الجثة التي وجدناها تحت مدينة فالدروك لم تكن حالة فريدة من نوعها. لدينا المزيد من الأدلة.”
صافرات الإنذار المعتادة قطعت السكون، صاخبة مثل نداءات موت معلنة. انطلقت كتيبة الملك في الأرجاء، خطواتهم كانت إيقاعاً ثقيلاً يخترق الشوارع المظلمة والمبللة بالأمطار المتجمعة في برك صغيرة بين الحجارة العتيقة. كانت الأرض تحتهم ملساء من الرطوبة، تلمع تحت ضوء مصابيح الغاز المهتز بفعل الرياح، تلك المصابيح التي تلقي بظلال مشوهة وطويلة على الجدران المنهارة. أما الشوارع، فقد خلت من سكانها كما لو أن المدينة لفظتهم إلى جحورها، ليختبئوا من الليل ووحوشه.
تجمد إيفان في مكانه للحظة، ثم سأل بدهشة: “ماذا تقصدين؟ هل هناك المزيد من الكيانات المماثلة لذلك اليعسوب العملاق؟”
أخذ إيفان نفسًا عميقًا، محاولًا كبح مشاعر التوتر التي بدأت تتراكم داخله. “هل يتعلق الأمر بـ فريدريك؟”
فرد فريدريك ظهره قليلاً، نظرته أصبحت أكثر عمقًا وعيونه مملوءة بشيء من الظلال. “لا، لم يكن تخاطرًا. لو كان كذلك، لشعرت به. كان الأمر أشبه بشيء أعظم منهم جميعًا يتحكم فيهم من الخلف ولهذا السبب أحتاج إلى العودة إلى هناك.”
أومأت كلارا برأسها ببطء: “نعم، وأعتقد أنها ليست الوحيدة. تذكّر تلك الجثة التي اكتشفناها، اليعسوب العملاق الذي له أطراف شبيهة بأيدي البشر؟ نحن الآن نعتقد أنها ليست كيانًا منفردًا، بل جزء من سلسلة من الشذوذات.”
“لقد وصلنا…” قال إيفان بصوت خافت، عيناه تتفحصان الأبواب العتيقة، والمجهول الذي ينتظر خلفها.
استدار إيفان، شعوره بالقلق يتزايد. “هل تتحدثين عن احتمال وجود المزيد من هذه البزاقات العملاقة؟”
“بخير…” قال إيفان متثاقلاً، وهو يعلم أن الأمر لن ينتهي بهذه السهولة.
ردت عليه بصوت ثابت: “لا أستطيع إثبات ذلك بعد، لكن إذا قرأت ملفات ‘لغز الضباب المكسور’ و طائفة الظلال، أعتقد أنك ستفهم ما أعنيه.”
بينما كان يغرق في أفكاره المظلمة، قاطعه صوت ناعم لكنه مهيب، بلكنة سلافية ثقيلة، “أنت تبدو أفضل حالاً، يا إيفان.” جاء الصوت من مدخل الغرفة، متبوعًا بخطوات خفيفة لكنها واثقة تملأ الفراغ.
وقف إيفان، جسده مشدود بالضغط، وقال: “لماذا أشعر أن هناك شيئًا آخر لم تخبريني به بعد؟”
لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
تنهدت كلارا ببطء، وأخذت لحظة لتجميع أفكارها قبل أن ترد: “هناك طائفة صغيرة تعمل على تعديل البشر بطرق غامضة لا نفهمها بعد، ويقودها شخص يُدعى السيد ليل . هذا الرجل تواصل مع كيان على الأقل مشابه لذلك الذي واجهناه أثناء التحقيق في ‘الكيان الممزق’.”
الطرق كانت ضيقة، الجدران المتهالكة على جانبي الشارع تتكدس فوق بعضها البعض، تشقها نوافذ صغيرة ذات إطارات خشبية باهتة، تغطيها الستائر الثقيلة التي لا تُفتح أبدًا. الواجهات كانت قديمة، يغلب عليها اللون الداكن بفعل الغبار الذي تراكم على مر العقود. الأبواب العتيقة المصنوعة من خشب البلوط تزينها زخارف معقدة، لكنها فقدت بريقها منذ زمن طويل، محفورة بأثر الزمن والرطوبة. كان بوسع أي مارة أن يشعروا بأن هذه الأبنية قد شهدت أكثر مما تتحمله.
شعر إيفان بأن قلبه ينبض بسرعة متزايدة، وبدأت علامات القلق تظهر على ملامحه. “هل لهذا أي علاقة بالكيان الذي تعقبني سابقا؟”
“طبيعية؟ كيف يكون ذلك؟” قبضت يدا إيفان على الأغطية بتوتر.
“ربما، لكن هذا غير واضح تمامًا. ما هو واضح هو أن الوضع أكبر مما يمكن لكتيبتنا التعامل معه بمفرده. نحن بحاجة إلى توسيع فرق البحث، وإلى إطلاق برنامج جديد يركز على اكتشاف الشذوذ، وربما استخدام تقنيات خارج نطاق قدرتنا . لأنني إذا كنت على حق، فإن السيد ليل ورعاته لم يقتربوا حتى من إنهاء تدخلهم في عالمنا.”
حدّق إيفان في الملفات أمامه، وبدأت الأفكار تتداخل في ذهنه.
صمت إيفان لوهلة، مستذكرًا تلك الأيام الأولى. لم يكن هو نفسه، لم يكن يعرف حتى من يكون حينها. كان مجرد مزيج من الغضب والخوف.
ثم أكملت كلارا كلامها بنبرة هادئة لكنها جادة: “تم رفع التقرير إلى الوزير السابع، وقد تم طلب التعاون مع المكتبة.”
لم يصدق إيفان ما سمعه. توقف للحظة، كأن عقله يحاول استيعاب الأمر. “المكتبة؟ فعلاً؟! نطق بالكلمات ببطء، وكأن صدى ما قيل للتو أعاد إليه ذكريات غامضة. فكرة التعاون مع المكتبة كانت أبعد مما قد تخيل، فالمكتبة لطالما كانت مصدرًا للأسرار المحظورة والمخاوف التي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
لم يرفع إيفان عينيه عن الأرض وهو يستعد لإنهاء تمرينه. كانت الحصيرة تحت جسده دافئة بفعل الحرارة المتصاعدة من جسده. همس بصوت متعب: “السيدة المديرة… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
نظرت إليه بتعاطف غريب، وملامحها شاحبة من التفكير. “ماذا تقصد؟”
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات
